كارثة العصر الربــــا
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين ، والصلاةُ والسلام على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وبعد..
في هذا الزمان أعرض كثيرٌ من المسلمين عن اليوم الآخر والتفَتوا إلى الدنيا حَتَّى ملكت قلوبهم وعقولهم وأصبح جمعُ المالِ من أيِّ طريقٍ كان أكبر همِّهم ومبلغ علمهم ، فالحلال عند بعضهم ما حلَّ باليد والجيب ولو كان حراماً ، والحرام عندهم ما تعذَّرَ عليهم أخذه ، وهذا يدل على عدم خشيةِ الله تعالى في قلوبِهم وإعراضهم عن دين الله تعالى ، ومن هذه المكاسب المحرمة الَّتِي تساهل بِهَا كثيرٌ من الناس هي التعامل بالربا ذلك المال الحرام الَّذِي مَن أكلهُ مستحِلاًّ لَهُ فهو كافرٌ والعياذُ بالله ، لأنَّ تحريم الربا معلومٌ من الدين بالضرورةِ قال الله تعالى: ]وأحَلَّ الله البيعَ الحرب على من يفعل معصيةً كماوحرَّمَ الرِّبا[ ، ولم يعلن الله تعالى ورسوله أعلنها على آكل الربا ،
قال تعالى: ]فإن لَمْ تفْعَلوا فأذَنوا بحربٍ منَ اللهِ ورسولِهِ[ ، وقال تعالى في حقِّ مَن تبيَّنَ لَهُ حكم الرِّبا ثُمَّ عاد إلى العمل بِهِ: ]ومَنْ عادَ فأولئكَ أصحابُ النارِ هم فيها خالِدون[ .
وقد كشف النبي
حقيقةَ الرِّبا وأبانَ بشاعته وقبحَه ، بما يردع كل مؤمنٍ بالله واليومِ الآخر عن مقاربته فضلاً عن مقارفته ، حيث قال
: "الربا اثنان وسبعونَ باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه".فهل شيءٌ أقبح من هذا ، وهل بعد هذا الزجر من زجرٍ لأولي الإيمان والبصائر ، بل لقد فاقَ الربا في قبحه وحرمته أنواع الزنا كلها ، مع ما في الزنا من فسادِ الدين والدنيا ، ومع ما فيه من خيانة كبرى لزوج المزني بِهَا ووالديها ، وما يؤدي إليه من فسادِ الأخلاق ، وارتفاع الحياء واختلاط الأنساب ، وحدُّ الزاني الرجم أو الجلد مع التغريب ، وعقوبة الزُّناةِ في تنُّورٍ مسجورٍ تُشوى أجسادهم ، رغم ذلك كله فإنَّ الربا أشد تحريماً وأعظم جريمةً ، مهما كان الربا قليلاً ، يقول عليه الصلاة والسلام: "درهمُ رِبا يأكله الرجل وَهُوَ يعلم أشد عند الله من ستةٍ وثلاثين زَنية في الإسلام" أخرجه الإمام أحمد بسندٍ صحيح ، فإذا كان هذا في درهمٍ واحدٍ فكيف بمن يأكلون الألوف بل الملايين؟!.
والربا هُوَ: هُوَ كسبٌ خبيث محرم ، وسحتٌ لا خير فيه ، ولا بركة منه ، بل يجلب الضرر والنقيصة في الدين والدنيا والحاضر والمستقبل على كل مَن شاركَ فيه وأعانَ عليه ورضيه بأيِّ وجهٍ من وجوهِ المشاركة ، من أخذٍ أو عطاءٍ أو كتابةٍ أو شهادةٍ أو إعانةٍ بمالٍ أو إجارةٍ لأهله أو تأييدٍ لهم أو شفاعة أو دعاية لهم أو دفاع عنهم أو حماية لهم أو رضاً بما هم عليه أو غير ذلك من وجوهِ التأييد والإعانة لأهل هذه المعاملة الباطلة الجائزة الَّتِي حقيقتها المحادّة والمحاربة والظلم الشديد للعباد ؛ فمعاملةٌ هذه حقيقتُها لاشكَّ أَنَّ أضرارَهالله ورسوله كثيرة وعظيمة وأنَّ عواقبَها وخيمة وأليمة على الفرد والجماعة الَّذِينَ يشتركون فيها وعلى المجتمع الَّذِي يقِرُّ ذلك المنكر فلا ينكره ولا يسعى في تغييره وهي أضرارٍ محقَّقة ، معجَّلةٍ ومؤجَّلة ، فمن ذلك:
1- عدم قبول الصدَقة من آكِلِ الربا لأن كسبَهُ خبيثٌ ، وقد قال سُبْحانَهُ وتَعَالَى: : "إِنَّ الله طيبٌ لا يقبلُ إِلاَّ]ولا تَيَمَّمُوا الخبيثَ منه تنفِقون[ ، وقال طيِّباً" رواه مسلم.
2- ردّ الدعاء ، فلا يستجيبُ الله دعاءَ آكِلِ الربا ، قال : "أطِبْ مطعمك تكُنْ مستجابَ الدعوة".
3- نزْعُ البركة من العمر ومن الكسب ، قال تعالى: ]يمحقُ الله الربا ويُرْبِي الصدقات[ ، فهذا نصٌّ كريم ينذرُ بشؤمِ عاقبة الربا ، والواقع يشهد بذلك أيضاً فكم من إنسانٍ يتعامل بالربا أو يعمل بِهِ وعنده الأموال الكثيرة ولكن لا بركة فيها ولا فائدةَ منها.
4- أكل الربا سببٌ ، وكفى بِهَا خطراً على الشخص والمجتمع في كل شأنٍ منللحربِ من الله ورسوله ببدنه وبماله وعشيرته وكلشؤونِهِ ، ومَنْ ذا الَّذِي سيثبت لحربٍ من الله ورسوله ما أوتي من قوَّةٍ ، قال تعالى مهدداً لأكَلَةِ الربا: ]فإن لَمْ تفعَلوا فأذَنوا بحربٍ من الله ورسوله[.
، واللعنُ5- أكلُ الربا موجبٌ للَّعنِ من الله ورسوله هُوَ الطردُ والإبعادُ عن مظانِّ الرحمة لكل من اشترك في الربا بأيِّ وجهٍ من آكِلَ الربا ومؤكله وكاتبه فقال: "لعنَ رسولُ الله الوجوه كما روى ذلك جابر وشاهِديه ، وقال هم سواء" رواه مسلم.
6- أكلُ الربا من أسبابِ سوءِ الخاتمة ، لأن من الذنوب ما يستوجب بِهِ صاحبه نزعَ الإيمان ، ومن ذلك ذنبُ الربا فيفتَنُ محادّاً للهبِهِ صاحبه عند الموت فيلقى ربَّه مرابِياً عاصِياً لله ورسوله ظالِماً لعباده فيفارق الدنيا على أسوأ حالٍ منقلباً إلى أسوأ مآل.
7- آكلُ الربا كما جاء في الحديث يعذبُ في قبره بالسباحةِ في نَهرٍ من دمٍ وتقذفُ في فيه الحجارة ، فتقذفُ بِهِ وسط النهر وهكذا كلما أراد الخروج رُمِيَ في فيه بحجرٍ فيرجع حيث كان ، ويم القيامةِ يقومُ من قبره كقيامِ المجانين الَّذِينَ مسَّهم الشيطان ، قال تعالى: ]الَّذِينَ يأكُلونَ الربا لا يقومونَ إِلاَّ كما يقومُ الَّذِي يتخبَّطُهُ الشيطان من المسّ[ أي يقومون من قبورهم في صورِ المجانين ، ولعل ذلك من سوء حالهم وما يعتريهم من وحشةٍ في قبورِهم وما نالهم من عذابٍ بعد موتِهم وذلك من أجل أكلهم الربا.
8- مَن مات وَهُوَ يتعامل بالربا فإنه متوعدٌ بالنار لقوله تعالى: ]ومَنْ عادَ فأولئكَ أصحابُ النار هم فيها خالِدون[ ، ثُمَّ زادَ في الوعيد فحكم عليهم بالخلود في النار والعياذُ بالله ، وَهُوَ تَهديدٌ تتصدَّعُ منه القلوب وتقشعِرُّ لهوله الجلود.
والآن أخي المسلم
بعد أن عرفتَ حقيقةَ الربا الَّذِي هُوَ تطبيقٌ قبيحٌ لربا الجاهلية الأولى وتبيَّنَ لك حكمه وبعض أضراره وأخطاره على المرء نفسه في دينه ودُنياه وآخرته وعلى المجتمع من كل جهةٍ عاجلاً وآجِلا ، فماذا أنت فاعلٌ بعد ذلك في أموالك؟ هل ستأكل بِهَا الحرام وتستثمرها في الأعمال الرِّبَوية؟ أم تنقذ نفسك من وتكون ممن يتَّقي الله ويخافه ويتجنب الربا بِكُلِّالنار ومحاربة الله ورسوله صوره؟
لا أظنك –إن شاء الله- ممن سيستمر على أكل الربا أو يعين عليه بعد أن عرفتَ حكمَ الله ورسوله فيه ، وما جاء من الوعيد الشديد لِمن تعاملَ بِهِ ، وأُعيذك بالله من ذلك لأن إيمانك بالله ورسوله سيكون رادِعاً وزاجِراً لك عن الاستمرار في التعامل بالربا ، وسيكون مُعيناً لك على تركِ هذا العمل الأثيم والمكسب الخبيث ، وإذا أردت أخي المسلم التخلص من الربا فتوكل على الله وتأكَّدْ إن كنتَ صادِقاً في تركه أَنَّ الله سيُيَسِّرُ لك ذلك وسيشرح صدركَ لتركه ويعوضك خيراً منه ، قال تعالى: ]وَمَنْ يتَّقِ الله يجعَل لَهُ مخرجاً[ وقال : "مَن تركَ شيئاً لله عوَّضَهُ الله خيراً منه" ثُمَّ إِنَّ المجالات الَّتِي يمكن أن يستثمر الإنسان فيها أمواله كثيرةٌ جداً وليست محصورةً في مجالات الربا فقط.
فعلى المسلم الصادق
أن يبحث عنها ويستثمر أمواله فيها إن كان ريد السلامة لدينه والنجاةَ من عذابِ ربه ، وأن لا يلجأ إلى المكاسب المحرَّمةِ طمَعاً في زيادةِ أمواله ، بل عليه أن يرضى بما قسمه الله لَهُ حَتَّى وإن كان قليلاً ، لأن المال الحلال وإن كان قليلاً فهو خيرٌ من المال الحرام الكثير وأعظم نفعاً لقوله تعالى: ]قُل لا يستَوي الخبيثُ والطيِّبُ ولو أعجبكَ كثرةُ الخبيث[ .
وَإِنَّ النعيم والترف الَّذِي سيعيش فيه الإنسان نتيجة الكسب المحرم كل ذَلِكَ والله سوف ينساهُ الإنسان في أول سكرةٍ من سكَراتِ الموت أو في أولِ ضمَّةٍ من ضمَّاتِ القبر الشديدة ، أو في موقف واحد من مواقف القيامة العظمى ، فعلى المسلم العاقل أن يعيَ ذَلِكَ جيداً ، وأن يبتعد عن الأعمال المحرَّمةِ عموماً وأن لا يجعل حبَّ المال يُنسيه ربه ويُنسيه دينه ويُنسيه مصيره ومآله ، فَإِنَّ الإنسان مَهْمَا كَانَ فَهُوَ والله أضعف من أن يتحمل شيئاً من عذابِ الله ، فلا داعي للمكابرةِ والعناد والاستمرار على الخطأ.
صورٌ من بعض المعاملات الربوية المنتشرة في هذا الزمان
يقع كثيرٌ من الناس في هذا الزمن دونَ علمٍ من بعضهم وتعمدٍ من البعض الآخر في معاملاتٍ ربويةٍ محرمةٍ مشؤومةٍ ، فمن ذَلِكَ:
1- الاقتراض النقدي بفائدة (كأن يقرض الدائن المدين 100 ريال على أن يَردَّها بعد مدَّةٍ 120 ريالاً مثلاً).
2- تأجيل الدين إذا حلَّ وقت سداده إلى أجلٍ مقابل زيادة المبلغ.
3- شراء بطاقات الائتمان كالفيزا وغيرها ، حيث إِنَّ قيمة هذه البطاقات يعتبر فائدة للبنك وأيضاً فَإِنَّ التوقيع بالموافقة على دفع الفوائد المالية إذا تأخر تسديد قيمة ما يستفيده الإنسان من البطاقة يعتبر رضاً بالربا وإقراراً بِهِ وهذا حرامٌ ، حَتَّى ولو لَمْ يدفع الإنسان فوائد للبنك ، لكنه قد وافق من البداية على الدفع ، كما أفتى بذلك العلماء الناصِحون.
4- بيع العينة: وَهُوَ أن يذهب الدائن إلى محل تجاري ويشتري منه بضاعة معينة شراءً صورِيّاً ليس لَهُ بِهَا غرض سوى التوصل إلى بيع الدراهم بأكثر منها ، ثُمَّ بعد ذَلِكَ يبيعها على المستدين ثُمَّ يعود المستدين فيبيعها على صاحب المحل ويخرج بدراهم ، وهذا ربا ، وَهُوَ أيضاً بيع ما لا يملك الإنسان ، وبيع المدين السلعة قبل قبضِها وحيازتِها وبيعها على من اشتريت منه وكل ذَلِكَ حرام.
5- شراء وبيع أسهم البنوك الربوية أو أسهم الشركات والمؤسسات الَّتِي تستثمر أموالها في الأعمال الربوية.
6- فتح الحسابات في البنوك الربوية وأخذ الفوائد عليها.
فيجب على كُلّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر
أن ينتبه لذلك جيداً وأن يحتاط لنفسه ، وأن لا يُقدمَ على أيِّ معاملةٍ مالِيَّةٍ لا يعرف حكمَها حَتَّى يسأل عنها أهل العلم الموثوقين عنها لئلا يقع في شيءٍ من الربا وَهُوَ لا يشعر.
عافنا الله واياكم من الربا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم